سورة القمر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


ولما ذكر ما علم منه بقرينة ما ذكر من خرقه للعادة، وأن إجابته لدعوته عليه الصلاة والسلام، ذكر تمام الانتصار بنجاته فقال: {وحملناه} أي بما لنا من العظمة على متن ذلك الماء بعد أن صار جميع وجه الأرض مجرى واحداً، وحذف الموصوف تهويلاً بالحث على تعرفة بتأمل الكلام فقال: {على ذات} أي سفينة ذات {ألواح} أي أخشاب نجرت حتى صارت عريضة {ودسر} جمع دسار وهو ما يشد به السفينة وتوصل بها ألواحها ويلج بعضها ببعض بمسمار من حديد أو خشب أو من خيوط الليف على وجه الضخامة والقوة الدفع والمتانة، ولعله عبر عن السفينة بما شرحها تنبيهاً على قدرته على ما يريد من فتق الرتق ورتق الفتق بحيث يصير ذلك المصنوع، فكان إلى ما هيأه ليراد منه وإن كان ذلك المراد عظيماً وذلك المصنوع.
ولما كان ذلك خارقاً للعادة فكان يمكن أن يكون في السفينة خارق آخر بإسكانها على ظهر الماء من غير حركة، بين أن الأمر ليس كذلك فقال مظهراً خارقاً آخر في جريها: {تجري} أي السفينة {بأعيننا} أي محفوظة أن تدخل بحر الظلمات، أو يأتي عليها غير ذلك من الآفات، بحفظنا على ما لنا من العظمة حفظ من ينظر الشيء كثرة ولا يغيب عنه أصلاً، وجوزوا أن يكون جمع تكسير لعين الماء، ثم علل ذلك بقوله: {جزاء} أي لعبدنا نوح عليه السلام، ولكنه عبر هنا بما يفهم العلة ليحذر السامع وقوع مثل ذلك العذاب له إن وقع منه مثل فعل قومه فقال: {لمن} وعبر عن طول زمان كفرهم بقوله: {كان كفر} أي وقع الكفر به وهو أجل النعم، فقال على أهل ذلك الزمان وذلك جزاء من كفر النعم، ويجوز أن يكون المراد به قومه بين أنه وقع الكفر منهم وقوعاً كأنهم مجبولون عليه حتى كأنه وقع عليهم لتوافق قراءة مجاهد بالبناء. للفاعل.
ولما تم الخبر عن نجاته بحمله فيها، نبه عن آثارها بقوله: {ولقد تركناها} أي هذه الفعلة العظيمة من جري السفينة على هذا الوجه وإبقاء نوعها دالة على ما لنا من العظمة، وقيل: تلك السفينة بعينها بقيت على الجودي حتى أدرك بقايا ما هذه الأمة {آية} أي علامة عظيمة على ما لنا من العلم المحيط والقدرة التامة {فهل من مدكر} أي مجتهد في التذكير بسبب هذا الأمر لما يحق على الخلق من شكر الخالق بما هدت إليه رسله كما قالوه.
ولما قدم تعالى قوله: {فما تغن النذر} وأتبعه ذكر إهلاكه المكذبين، وكان ما ذكره من شأنهم أمرهم في الجلالة والعظمة بحيث يحق للسامع أن يسأل عنه ويتعرف أحواله ليهتدي بها على ذلك بقوله مسبباً عن التذكير باستفهام الإنكار والتوبيخ: {فكيف كان} أي وجد وتحقق {عذابي} أي لمن كذب وكفر وكذب رسلي {ونذر} أي الإنذارات الصادرة عني والمنذرون المبلغون عني فإنه أنجى نوحاً عليه السلام ومن آمن معه من أولاده وغيرهم ومتعهم بعد إهلاك عدوهم وجعل الناس الآن كلهم من نسله، قال القشيري: في هذا قوة لرجاء أهل الدين إذا لقوا في دين الله محنة فجحد غيرهم ما آتاه الله أن يهلك الله عن قريب عدوهم ويمكنهم من ديارهم وبلادهم ويورثهم ما كان إليهم، وكذلك سنة الله في جميع أهل الضلال- انتهى.
وكان المعنى في تكرير ذلك عليهم بعد التذكير بما أتيناهم به من قصص هذه الأمم ميسراً لفهم صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم كيف كان أخذي لهم وعاقبة تخويفي إياهم لعلهم يتعظون فينفعهم إنذار المنذرين.
ولما كان هذا التفصيل مما أنزل أول القرآن تيسيراً على الأمة، نبه على ذلك بقوله: {ولقد يسرنا} أي على ما لنا من العظمة {القرآن} أي على ما له من الجمع والفرق والعظمة المناسبة لكونه صفة لنا {للذكر} أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه، قال ابن برجان: أنزلناه باللسان العربي وأنزلناه للأفهام تنزيلاً وخاطبناهم بعوائدهم وأعلمنا من قبل أعمالهم وأقبسناهم المعرفة واليقين من قبل ذواتهم وضربنا لهم الأمثال وأطلنا لهم في هذه الأعمال ليتذكروا الميثاق المأخوذ عليهم، وقال القشيري: يسر قراءته على ألسنة قوم، وعلمه على قلوب قوم، وفهمه على قلوب قوم، وحفظه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن وكلهم أهل الله وخاصته- انتهى. والآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى {ولقد جاءهم من الأنباء} الآيتين، فالمعنى أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلاً لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان: أحدهما أنه فوق بلاغتهم، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي. ولما كان هذا القرآن العظيم الجامع ترجمة لأفعاله سبحانه في هذا الوجود الشاهد والغائب الذي أخبرنا عنه وشرحنا لما أنزل علينا من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي تعرف لنا بها، وكان سبحانه قد جعل خلق الآدمي جامعاً، فما من شيء من أفعاله إلا وفي نفسه منه أثر ظاهر ناظر للتفكر في القرآن والتعرف للأسرار منه بالتذكير الذي يكون... لما كان الإنسان يعرفه ثم نسيه حتى صار لا يستقل باستحضاره فإذا ذكر به ذكره، فقال منبهاً على عظيم فعل العلم والقرآن الذي هو طريقه بالتكرار والتعبير بما هو من الذكر على أنه المحفوظ للإنسان بما هيأ له من تيسير أمره {فهل من مدكر} قال البخاري في آخر صحيحه: قال مطر الوراق: هل من طالب علم فيعان عليه، وقد تكررت هذه الموعظة في هذه السورة أربع مرات، وذكرت الجملة الأخيرة منها منفكة عن تيسير القرآن مرتين: مرة في أول القصص وهي قصة نوح عليه السلام، ومرة كما يأتي في آخرها، وذلك عقب قصة فرعون وهو قوله: {فكيف كان عذابي ونذر} مثل ذلك، وكررت {فبأي ألاء ربكما تكذبان} في الرحمن إحدى وثلاثين مرة، فنظرت في سر ذلك فظهر لي- والله الهادي- أن الذي تقدم في سورة المفصل على هذه السورة أربع سور هذه السورة خاتمتها فأشير إلى التذكر بكل سورة منها حثاً على تدبرها بآية ختمت كلماتها بكلمة عادت حروفها في السور الخمس وأدغم حرف منها في آخر بعد قلب كل منهما، فكانت هذه الكلمة التي مدلولها الذكر مشيرة إلى الحواس الخمس الظاهرة التي هي مبادئ العلم، وكان ما في أول هذه المواعظ وآخرها لخلوه عن ذكر القرآن موازياً للحرفين اللذين طرفهما للوهن بالتعبير والقلب لكن كان الحرفان بالإدغام كحرف واحد، كانت الجملتان الموازيتان لهما كآية واحدة من تلك الأربع، وكان هذا الأول والآخر مشاراً به إلى هذه السورة التي جمعت التذكير بالسورة الأربع، وأعريت عن ذكر تيسير القرآن لافتتاح السور السور بمحو وما يقرب من المحو وهو آية الليل والتيسير فيها والساعة التي هي أغيب الغيب، وكل من فيها سوى الله محو لسلب الأمر كله عنهم وخصت بها الأولى والآخرة لجامع بينهما من غرق العصا في الماء ونجاة المطيعين بعضهم بالسفينة وبعضهم بنفس البحر الذي هو مسرح السفن، وكانت الموعظة المذكور فيها القرآن في ختام قصة نوح عليه السلام مع عمومها لجميع القرآن إشارة إلى خصوص التذكير بسورة ق لما بينهما من جامع الإحاطة بإحاطة جبل ق بالأرض كلها وطوفان قوم نوح عليه السلام بعموم جميع الأرض والتي في سورة عاد إشارة إلى سورة الذاريات لأن كلاهم كان بالريح، والتي في قصة ثمود إشارة إلى التذكير بالطور بجامع ما بينهما من الرج والرجف والذل والصعق، أما في قصة ثمود فظاهر، وأما في الطور فلما كان من دكه وصعق بني إسرائيل فيه، وقد ذكر الصعق في آخر الطور، وما في قصة لوط إشارة إلى النجم لأن مدائنهم ارتفعت إلى عنان السماء ثم أهويت وأتبعت الحجارة، فلما كان الأمر هكذا، وكانت النعم محيطة بالإنسان من جهاته الست، فضربت الحواس الخمس في الجهات الست، فكانت ثلاثين، كأنه قيل: هل مذكر بهذا القرآن، ولا سيما ما تقدم على هذه السورة منه في المفصل ما لله عليه من النعم في نفسه وفي الآفاق المشار إلى القسم الأول منها بمذكر وإلى الثاني بتكرير ذكر الآلاء فكل آية تكرير انتهى إلى العدد المخصوص وإلى المجموع بالمجموع ليعلم أن نعم الله محيطة به على وجه لا يقدر على صنعه إلا الله الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال التي أعظمها- من حيث كونه أساساً يبنى عليه- الوحدانية المنزهة عن الشركة فيخشى من معصيته أن يسلبه نعمه أو واحدة منها فلا يجد من يقوم بها ولا بشيء منها غيره أو يعذبه بشيء مثل عذاب هذه الأمم أو بغير ذلك مما له من إحاطة القدرة والعلم فلا يجد من يرد عنه شيئاً منه سبحانه، وأما الواحد الزائد فهو إشارة إلى أن المدار في ذلك الإدراك هو العقل والحواس كما أن المقصود بذلك كله واحد وهو الله تعالى، وكل هذه الأشياء أسباب لمعرفته وأيضاً فالواحد إشارة إلى أن زيادة الآلاء من فضل الله تعالى لا تنقطع كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا يزال، فكلما أغنت زيادتها ابتدأ دور ثم ابتدأ دور آخر دائماً أبداً، وللتكرير نكتة أخرى بديعة جداً، وهي تأكيد التقرير دلالة على اشتداد الغضب المقتضي لأنهى العقوبة كما أن من اشتد غضبه من إنكار شخص لشيء من قتله إذا بينه غاية البيان بأمور متنوعة وهو يتمرد ويلد غاية اللدد يأخذه فيجمع له جمعاً لا يقدر على العدول عن الحق بحضرتهم.
وهو يذعن وهو في قبضته فيذكر تلك المعاني بين ذلك الجمع، فيصير كلما ذكر له نوعاً منها بحضرتهم، قال له: هل ظهر لك هذا؟ فيقول ذاك المنكر: نعم ظهر لي، فلا يريد ذلك إلا غضباً لما تقدم له من عظيم غضبه ولدده فيذكر له معنى آخر ثم يقول: هل ظهر لك هذا؟ فيقول: نعم والله لا يعرج على اعترافه ذلك ويذكر له نوعاً آخر، ويقول مثل ذلك يريد الزيادة في تبكيته وتخجيله، وهكذا إلى أن يشتفي- كل ذلك للتنبيه على لدده وكفاية كل نوع منها لما أريد منه من البيان، وقال في الكشاف: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين أدكاراً واتعاظاً وأن يستأنفوا تنبهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحث عليه والبعث على ذلك كله وأن يقرع لهم العصى مرات ويقعقع لهم السن تارات، لئلا يغلبهم السهود ويستولي عليهم حكم الغفلة، وهكذا حكم التكريرات لتكون العبر حاضرة للقلوب مصورة للأذهان مذكورة غير منسية في أوان- انتهى، ولمثل ما مضى أو قريب منه كرر التهويل بالعذاب ست مرات: أربع منها {فكيف كان عذابي ونذر} واثنان منها {فذوقوا عذابي ونذر} فهما بمنزلة واحدة من الأربع ليرجع الست إلى الخمس الدال عليها {مدكر} إشارة إلى أن الحواس الخمس كما ضربت في الجهات الست لأجل النعم التي هي جلب المصالح ضربت فيها للتذكير بدفع النقم الذي هو درأ المفاسد والتحذير منها، ومن فوائد تكرر الست الراجعة إلى الخمس مرتين: مرة لجلب النعم وأخرى لدفع النقم أن الحواس مكررة ظاهراً وباطناً، فمن ذل لسانه بالقرآن ظاهراً صحت حواسه الظاهرة ونورت له الباطنة، ومن أبى عذب بسبب الباطنة فتفسد الظاهرة، واختير للموعظتين عدد الست مع إرادة جماعة إلى خمسة لأن الست عدد تام وذلك لأن عدد كسورها إذا جمعت سادتها ولم تزد عنها ولم تنقص وهي النصف والثلث والسدس، وهذا العدد مساو لدعائم الإسلام الخمس وحظيرته الجهاد التي هي عماد تقوى المتقين أهل مقعد الصدق الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله المشار به إلى الصيام: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183] والحج {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} [البقرة: 125] والجهاد {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة} [البقرة: 214] إلى قوله: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] وذلك إشارة إلى أن هذا الدين تام لا زيادة فيه ولا نقص لأن النبي الذي أرسل ختام الأنبياء، وتمام الرسل الأصفياء. ولما كان قوم عاد قد تكبروا بشدتهم وقوتهم، وكانت حال قريش قريبة من ذلك لقولهم إنهم أمنع العرب وأقواهم وأجمعهم للكمالات وأعلاهم، كرر ذلك في قصتهم مرتين زيادة في تذكير قريش وتحذيرهم ولا سيما وقد كان بدء عذابهم من بلدهم مكة المشرفة كما هو مشروح في قصتهم، وكرر الأمر بالذوق في قصة لوط عليه السلام لأنهم عذبوا بما يردع من كان له قلب بالطمس، فلما لم ينفعهم ذلك أتاهم أكبر منه فكانوا كأمس الدابر، فلكل مرة من العذاب من الأمر بالذوق، وخصوا بالأمر بالذوق لما في فاحشتهم الخبيثة ما يستلذونه، وقد عم عذاب هذه الأمم جميع الجهات بما لقوم نوح ولوط عليهما السلام من جهة الغرق بالماء الماطر وحجارة السجيل ومن البحث من الماء النابع والخسف، وما في عموم عذابهم من استغراق بقية الجهات- والله الهادي.
ولما انقضت قصة نوح عليه السلام على هذا الهول العظيم، كان ذلك موجباً للسامع أن يظن أنه لا يقصر أحد بعدهم وإن لم يرسل برسول فكيف إذا أرسل، فتشوف إلى علم ما كان بعده هل كان كما ظن أم رجع الناس إلى طباعهم؟ وكانت قصة عاد أعظم قصة جرت بعد قوم نوح عليه السلام فيما يعرفه العرب فيصلح أن يكون واعظاً لهم، وكان عذابهم بالريح التي أهلكتهم ونسفت جبالهم التي كانت في محالهم من الرمال المتراكمة، فنقلها إلى أمكنة أخرى أقرب دليل إلى أنه تعالى يسير الجبال يوم الدين، هذا إلى ما في صفها الخارج عن العوائد من تصوير النفخ في الصور تارة للقيامة وتارة للأحياء، فأجيب بقوله: {كذبت عاد} أي أوقعت التكذيب العام المطلق الذي أوجب تكذيبهم برسولي هود عليه السلام في دعوته لهم إليّ وإنذاره لهم عذابي.
ولما كان عادة الملوك أو بعضهم أنه إذا أهلك قوماً كثيرين من جنده نجا ناس مثلهم بمثل ذنوبهم أن يرفع بهم، ويستألفهم لئلا يهلك جنده، فيختل ملكه، عقب الإخبار بتكذبيهم الإعلام بتعديهم لأنه لا يبالي بشيء لأن كل شيء في قبضته، ولما كان تكذيبهم إلا بإرادته كا أن عذابه بمشيئته، قال مسبباً عن ذلك: {فكيف} أي فعلى الأحوال لأجل تكذيبهم {كان عذابي لهم ونذر} أي وإنذاري إياهم بلسان رسولي، وكرر في آخر قصتهم هذا الاستخبار، فكان في قصتهم مرتين كما تقدم من سره- والله أعلم.


ولما ذكر تكذيبهم وأعقبه تعذيبهم، علم السامع أنه شديد العظمة فاستمطر أن يعرفه فاستأنف قوله، مؤكداً تنبيهاً على أن قريشاً أفعالهم في التكذيب كأفعالهم كأنهم يكذبون بعذابهم: {إنا أرسلنا} بعظمتنا، وعبر بحرف الاستعلاء إعلاماً بالنقمة فقال: {عليهم ريحاً} ولما كانت الريح ربما كانت عياناً، وصفها بما دل على حالها فقال: {صرصراً} أي شديد البرد والصوت. ولما كان مقصود السورة تقريب قيام الساعة ووصف سيرهم إلى الداعي بالإسراع، ناسب أن يعبر عن عذابهم بأقل ما يمكن، فعبر باليوم الذي يراد به الجنس الشامل للقليل والكثير وقد يعبر به عن مقدار من الزمان يتم فيه أمر ظاهر سواء لحظة أو أياماً أو شهوراً أو كثيراً من ذلك أو أقل كيوم البعث ويوم بدر ويوم الموت بقوله تعالى:- {إلى ربك يومئذ المساق} [القيامة: 35]: {في يوم} وأكد شؤمها بذم زمانها فقال: {نحس} أي شديد القباحة، قيل: كان يوم الأربعاء آخر الشهر وهو شوال لثمان بقيت إلى غروب الأربعاء، وحقق لأن المراد باليوم الجنس لا الواحد بالوصف فقال: {مستمر} أي قوي في نحوسته نافذ ماض فيما أمر به من ذلك شديد أسبابه، موجود مرارته وجوداً مطلوباً من مرسله في كل وقت، مستحكم المرارة قويها دائمها إلى وقت إنفاذ المراد.
ولما علم وصفها في ذاتها، أتبعه وصفها بما يفعل فيه فقال: {تنزع} أي تأخذ من الأرض بعضهم من وجهها وبعضهم من حفر حفروها ليتمنعوا بها من العذاب، وأظهر موضع الإضمار ليكون نصاً في الذكور، والإناث فعبر بما هو من النوس تفضيلاً لهم فقال: {الناس} الذين هم صور لا ثبات لهم بأرواح التقوى، فتطيرهم بين السماء والأرض كأنهم الهباء المنثور، فتقطع رؤوسهم من جثثهم وتغير ألوانهم تعتيماً لهم إلى السواد، ولذا قال: {كأنهم} أي حين ينزعون فيلقون لا أرواح فيهم كأنهم {أعجاز} أي أصول {نخل} قطعت رؤوسها. ولما كان الحكم هنا على ظاهر حالهم، وكان الظاهر دون الباطن، حمل على اللفظ قوله: {منقعر} أي منقصف أي منصرع من أسفل قعره وأصل مغرسه، والتشبيه يشير إلى أنهم طوال قد قطعت رؤوسهم، وفي الحافة وقع التشبيه في الباطن الذي فيه الأعضاء الرئيسة، والمعاني اللطيفة، فأنث الوصف حملاً على معنى النخل لا للطفها- والله أعلم.
ولما طابق ما أخبر به من عذابهم ما هو له به أولاً، أكد ذلك لما تقدم من سره فقال مسبباً عنه مشيراً إلى أنه لشدة هوله مما يجب السؤال عنه: {فكيف كان} أيها السائل، ولفت القول إلى الإقرار تنبيهاً للعبيد على المحافظة على مقام التوحيد: {عذابي} لمن كذب رسلي {ونذر} أي وإنذاري أو رسلي في إنذارهم هل صدق.
ولما أتم سبحانه تحذيره من مثل حالهم بأمر ناظر أتم نظر إلى تدبير ما في سورة الذاريات، أتبع ذلك التنبيه على أنه ينبغي للسامع أن يتوقع الحث على ذلك، فقال مؤكداً لما لأكثر السامعين من التكذيب بالقال أو بالحال معلماً أنه سهل طريق الفرار من مثل هذه الفتن الكبار إليه، وسوى من الاعتماد عليه، عائداً إلى مظهر العظمة إيذاناً بأن تيسير القرآن لما ذكر من إعجازه لا يكون إلا لعظمة تفوت قوى البشر، وتعجز عنها القدرة {ولقد يسرنا} على ما لنا من العظمة في الذات والصفات {القرآن} الجامع الفارق كله وما أشارت إليه هذه القصة من مفصله {للذكر} للحفظ والشرف والفهم والتدبير والوعظ والاتعاظ ما صرفنا فيه من أنواع الوعظ مع التنبيه للحفظ بالإيجاز وعذوبة اللفظ وقرب الفهم وجلالة المعاني وجزالة السبك وتنويع الفنون وتكثير الشعب وإحكام الربط {فهل من مدَّكر} أي تسبب عن هذا الأمر العظيم الذي فعلناه أنه موضع السؤال عن أحوال السامعين: هل فيهم من يقبل على حفظه ثم تدبره وفهمه ويتعظ بما حل بالأمم السالفة، ويتذكر جميع ما صرف من الأقوال وينزلها على نفسه وما لها من الأحوال، ويجعل ذلك لوجهنا فيلقيه بتشريفه به أمر دنياه وأخراه.
ولما كان هذا موضع الإقبال على تدبر مواعظ القرآن، وكان ثمود أعظم وعظ كان بعد عاد لما في صيحتهم الخارجة عن العهود من تصوير الساعة بنفختيها المميتة ثم المحيية، وقال مؤنثاً فعلهم إشارة إلى سفول هممهم وسفول فعلهم معلماً أن من كذب هلك- على طريق الجواب لمن لعله يقول استبعاداً لتكذيب بعد ما جرى في القصتين الماضيتين من التعذيب: {كذبت ثمود} أي قوم صالح {بالنذر} الإنذارات والمنذرين كلهم لأنهم شرع واحد، ثم علل ذلك وعقبه بقوله معلماً بالضمير أن المباشر بهذا الكفر رجالهم لئلا يظن أنهم نساء فقط: {فقالوا} منكرين لما جاءهم من الله غاية الإنكار: {أبشراً} إنكاراً لرسالة هذا النوع ليكون إنكار النبوة إنكاراً لنبوة نبيهم على أبلغ الوجوه، وأعظم الإنكار بقولهم مقدمين عدم الانفراد عنهم لخصوصيته: {منا} أي فلا فضل له علينا فما وجه اختصاصه بذلك من بيننا، وزادوا ذلك تأكيداً فقالوا: {واحداً} أي ليس معه من يؤيده، ثم فسر الناصب لقوله: {بشراً} بقوله: {نتبعه} أي نجاهد نفسنا في خلع مألوفنا وخلاف آبائنا والإقرار على أنفسنا بسخافة العقل والعراقة في الجهل ونحن أشد الناس كثرة وقوة وفهماً ودراية، ثم استنتجوا عن هذا الإنكار الشديد قولهم مؤكدين الاستشعار بأن كلامهم أهل لأن يكذب: {إنا إذاً} أي إن اتبعناه {لفي ضلال} أي ذهاب عن الصواب محيط بنا {وسعر} أي تكون عاقبتنا في ذلك الضلال الكون في أوائل أمر لا ندري عاقبته، فإنه لم يجرب ولم يختبر ولم يمعن أحد قبلنا سلفاً لنا فيجرنا ذلك إلى جنون وجوع ونار كما يكون من يأتوه في القفار في أنواع من الحر بتوقد حر الجبال وحر الضلال وحر الهموم والأوجال- وذلك من النار التي توعدنا بها، وهو معنى تفسير ابن عباس رضي الله عنهما له بالعذاب، وجعل سفيان بن عيينه له جمع سعير، والمعنى إنا نكون إذا اتبعناك كما تقول جامعين بين الضلال والعذاب بسائر أنواعه.
ولما كان فيما قالوه أعظم تكذيب مدلول على صحته في زعمهم بما أمؤوا إليه من كونه آدمياً مثلهم، وهو مع ذلك واحد من أحادهم فليس هو بأمثلهم وهو منفرد فلم يتأيد فكره بفكر غيره حتى يكون موضع الوثوق به، دلوا عليه بأمر آخر ساقوه أيضاً مساق الإنكار، وأموؤا بالإلقاء إلى أنه في إسراعه كأنه سقط من علو فقالوا: {أألقي} أي أنزل بغتة في سرعة لأنه لم يكن عندهم في مضمار هذا الشأن ولم يأتمروا فيه قبل إتيانه به شيء منه بل أتاهم به بغتة في غاية الإسراع. ولما كان الإلقاء يكون للأجسام غالباً، فكان لدفع هذا الوهم تقديم النائب عن الفاعل أولى بخلاف ما تقدم في ص فقالوا: {الذكر} أي الوحي الذي يكون به الشرف الأعظم، وعبروا بعلى إشارة إلى أن مثل هذا الذي تقوله لا يقال إلا عن قضاء غالب وأمر قاهر فقال: {عليه} ودلوا على وجه التعجب والإنكار بالاختصاص بقولهم: {من بيننا} أي وبيننا من هو أولى بذلك سناً وشرفاً ونبلاً.
ولما كان هذا الاستفهام لكونه إنكارياً بمعنى النفي، أضربوا عنه بقولهم على وجه النتيجة عطفاً على ما أفهمه الاستفهام من نحو: ليس الأمر كما زعم: {بل هو} لما أبديناه من الشبه {كذاب} أي بليغ في الكذب {أشر} أي مرح غلبت عليه البطالة حتى أعجبته نفسه بمرح وتجبر وبطر، ونشط في ذلك حتى صار كالمنشار الذي هو متفرغ للقطع مهيأ له خشن الأمر سيئ الخلق والأثر فهو يريد الترفع.
ولما كان هذا غاية الذم لمن يستحق منهم غاية المدح، أجاب تعالى عنه موعظة لعباده لئلا يتقولوا ما يعلمون بطلانه أو يقولوا ما لا يعلمون صحته بقوله: {سيعلمون} بوعد لا خلف فيه. ولما كان المراد التقريب لأنه أقعد في التهديد، قال: {غداً} أي في الزمن الآتي القريب لأن كل ما حقق إتيانه قريب عند نزول العذاب في الدنيا ويوم القيامة، وقراءة ابن عامر وحمزة ورويس عن يعقوب بالخطاب التفات يعلم بغاية الغضب {من الكذاب الأشر} أي الكذب والأشر وهو احتقار الناس والاستكبار على ما أبدوه من الحق مختص به ومقصود عليه لا يتعداه إلى مرميه وذلك بأنهم جعلوا الكذب ديدنه ولم يتعدهم حتى يدعى شيء منه لصالح عليه الصلاة والسلام، فكان الكلام معيناً لهم في الكذب قاصراً عليهم بسياقه على هذا الوجه المبهم المنصف الذي فيه من روعة القلب وهز النفس ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى، وكلما كان الإنسان أسلم طبعاً وأكثر علماً كان له أعظم ذوقاً.


ولما علم من هذا أنه سبحانه فصل الأمر بينهم، تشوف السامع إلى علم ذلك فقال تعالى مستأنفاً دالاً بأنهم طالبوه بآية دالة على صدقه: {إنا} أي بما لنا من العظمة {مرسلو الناقة} أي موجدوها ومخرجوها كما اقترحوا من حجر أهلناه لذلك وخصصناه من بين الحجارة دلالة على إرسالنا صالحاً عليه السلام: مخصصين له من بين قومه، وذلك أنهم قالوا لصالح عليه السلام: نريد أن نعرف المحق منا بأن ندعو آلهتنا وتدعو إلهك فمن أجابه إلهه علم أنه المحق، فدعوا أوثانهم فلم تجبهم، فقالوا: ادع أنت، فقال: فما تريدون؟ قالوا: تخرج لنا من هذه الصخرة ناقة تبعر عشراء، فأجابهم إلى ذلك بشرط الإيمان، فوعدوه بذلك وأكدوا فكذبوا بعد ما كذبوا في أن آلهتهم تجيبهم، وصدق هو صلى الله عليه وسلم في كل ما قال فأخبره ربه سبحانه أنه يجيبهم إلى إخراجها {فتنة لهم} أي امتحاناً يخالطهم به فيميلهم عن حالتهم التي وعدوا بها ويجيبهم عنها، وسبب سبحانه عن ذلك أمره بانتظارهم فيما يصنعون بعد إخراجهم لما توصلهم إليه عواقب الفتنة فقال: {فارتقبهم} أي كلف نفسك انتظارهم فيما يكون لهم جزاء على أعمالهم انتظار من يحرسهم وهو عالم عليم فإنهم واصلون بأعمالهم إلى الداهية التي تسمى بأم العرقوب ليكونوا كمن جعل في رقبته، ودل بصيغة الافتعال على أنه يكون له منه أذى بالغ قبل انفصال النزاع فقال: {واصطبر} أي عالج نفسك واجتهد في الصبر عليهم {ونبئهم} أي أخبرهم إخباراً عظيماً بأمر عظيم، وهو أن الماء الذي يشربونه وهو ماء بئرهم {أن الماء قسمة بينهم} أي بين ثمود وبين الناقة، غلب عليها ضمير من يعقل، يعني إذا بعثناها كان لهم يوم لا تشاركهم فيه في الماء، ولها يوم لا تدع في البئر قطرة يأخذها أحد منهم، وتوسع الكل بدل الماء لبناً. ولما أخبر بتوزيع الماء، أعلم أنه على وجه غريب بقوله استئنافاً: {كل شرب} أي من ذلك وحظ منه ومورد البرو وقت يشرب فيه {محتضر} أي أهل لما فيه من الأمر العجيب أن يحضره الحاضرون حضوراً عظيماً، وتتكلف أنفسهم لذلك لأنه صار في كثرته وحسنه كماء الحاضرة للبادية وتأهل لأن تعارضه حاضروه من حسنه ويرجعوا إليه وأن يجتمع عليه الكثير ويعودوا أنفسهم عليه.
ولما كان التقدير: فكان الأمر كما ذكرنا، واستمر الأمد الذي ضربنا فافتتنوا كما أخبرنا {فنادوا} بسبب الفتنة {صاحبهم} قذار بن سالف الذي انتدبوه بطراً وأشراً لقتل الناقة وكذبنا فيها بوعدهم الإيمان وإكرامها بالإحسان وهو أشقى الأولين {فتعاطى} أي أوقع بسبب ندائهم التعاطي الذي لا تعاطي مثله، فتناول ما لا يحق له أن يتناوله بسبب الناقة وهو سيفه بيده قائماً في الأمر الناشئ عن هذا الأخذ على كل حال، ورفع رأسه بغاية الهمة ومد يديه مداً عظيماً ورفعها وقام على أصابع رجليه حين عاطوه ذلك أي سألوه فيه فطاوعهم وتناول الناقة بذلك السيف غير مكترث ولا مبال {فعقر} أي فتسبب عن هذا الجد العظيم أن صدق فيما أثبت لهم الكذب في الوعد بالإحسان إليها والأشر، وهو إيقاع العقر الذي ما كان في ذلك الزمان عقر مثله وهو عقر الناقة التي هي آية الله وإهلاكها.
ولما وقع كذبهم على هذا الوجه العظيم المبني على غاية الأشر، حقق الله تعالى صدقه في توعدهم على تقدير وقوع ذلك، فأوقع عذابهم سبحانه على وجه هو من عظمه أهل لأن يتساءل عنه، فنبه سبحانه على عظمة بإيراده في أسلوب الاستفهام مسبباً عن فعل الأشقى فقال: {فكيف كان} وحافظ على مقام التوحيد كما مضى فقال: {عذابي} أي كان على حال ووجه هو أهل لأن يجتهد في الإقبال على تعرفه والسؤال عنه {ونذر} أي إنذاري. ولما علم تفرغ ذهن السائل الواعي، استأنف قوله مؤكداً إشارة إلى أن عذابهم مما يستلذ وينجح به، وإرغاماً لمن يستبعد النصيحة الواحد بفعل مثل ذلك، وإعلاماً بأن القدرة على عذاب من كذب من غيرهم كهي على عذابهم فلا معنى للتكذيب: {إنا} بما لنا من العظمة {أرسلنا} إرسالاً عظيماً، ودل على كونه عذاباً بقوله: {عليهم صيحة} وحقر شأنهم بالنسبة إلى عظمة عذابهم بقوله تعالى: {واحدة} صاحها عليهم جبريل عليه السلام فلم يكن بصيحته هذه التي هي واحدة طاقة، وتلاشى عندها صياحهم حين نادوا صاحبهم لعقر الناقة. ولما تسبب عنها هلاكهم قال: {فكانوا} كوناً عظيماً {كهشيم المحتظر} أي محطمين كالشجر اليابس الذي جعله الراعي ومن في معناه ممن يجعل شيئاً يأوي إليه ويحتفظ به ويحفظ به ماشيته في وقت ما لا يقاله (؟) وهو حظيره أي شيء مستدير مانع في ذلك الوقت لمن يدخل إليه فهو يتهشم ويتحطم كثير منه وهو يعمله فتدوسه الغنم ثم تتحطم أولاً فأولاً، وكل ما سقط منه شيء فداسته الغنم كان هشيماً، وكأنه الحشيش اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته.

1 | 2 | 3 | 4